الجمعة - 17 أكتوبر 2025 - الساعة 11:57 م
يقول الله تعالى في محكم تنزيله: ((ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا)).
في صباح الثامن عشر من سبتمبر 2025م، اهتزّت مدينة تعز على وقع جريمة بشعة هزّت الضمير الإنساني، حين أقدمت أيادٍ آثمة على اغتيال الشهيدة افتهان المشهري بإطلاق أكثر من عشرين رصاصة على سيارتها في وضح النهار، في جريمةٍ تحمل كل معاني الخسة والدناءة والغدر. لم تكن تلك الرصاصات الملعونة سوى نتيجة لمسلسل طويل من التهديدات والاعتداءات التي تعرضت لها الشهيدة خلال الأشهر السابقة، دون أن تجد من ينصفها أو يحميها من بطش الجناة، رغم لجوئها المتكرر إلى الأجهزة الأمنية ورفعها بلاغات رسمية موثقة.
لقد كانت الشهيدة افتهان نموذجًا نادرًا للمرأة الشجاعة التي واجهت الفساد داخل مؤسسات الدولة، ورفضت الانصياع لضغوط المتنفذين الذين سعوا إلى نهب المال العام والسيطرة على موارد صندوق النظافة والتحسين، الذي كانت تتولى إدارته بإخلاص ونزاهة. كانت تصرّ على أن تُوجّه موارد الصندوق لخدمة المدينة وتنميتها، لا لجيوب الفاسدين. ولهذا، أصبحت هدفاً مباشراً لحملات التحريض والتهديد والابتزاز، ثم لجريمة الاغتيال التي خطط لها بعناية وسبق إصرار وترصد.
ما يضاعف من فداحة الجريمة أن مسرحها كان وسط مدينةٍ مكتظة، ما يكشف حالة الانفلات الأمني الكامل الذي تعيشه تعز. فالجناة لم يخشوا القانون ولا الدولة، لأنهم يعلمون أنهم سيجدون من يحميهم أو يتستر عليهم. وهذا التواطؤ الممنهج بين بعض القيادات الأمنية والعسكرية، الذي مكّن القتلة من الإفلات من العقاب، هو في ذاته جريمة لا تقل خطورة عن القتل نفسه.
لقد وثقت الشهيدة بوعيها وحنكتها كل ما تعرضت له من تهديدات، وسجلت بالصوت والصورة أسماء المتورطين والجهات المتواطئة، وكأنها كانت تستشعر أن العدالة في مدينتها لن تتحرك إلا إذا قدمت دمها ثمناً للحقيقة. إن ما تركته من تسجيلات وشهادات هو الدليل القاطع على أن صوت الحق لا يموت، وأن الصمت الرسمي المريب لن يطمس الحقيقة مهما طال الزمن.
إن الجريمة التي طالت الشهيدة افتهان ليست حادثة فردية، بل حلقة في سلسلة طويلة من جرائم الاغتيالات والاعتداءات التي تشهدها تعز، حيث تشير الإحصاءات إلى أكثر من مئتين وسبع ضحايا وشهيد لم يُقتص لهم بعد، إضافة إلى مئات المنازل والعقارات المنهوبة دون أي تحرك جاد من السلطات. هذا الواقع المرير يؤكد أن المدينة باتت بحاجة ماسة إلى استعادة هيبة القانون وفرض العدالة على الجميع دون استثناء.
إن الواجب اليوم يفرض على النيابة العامة بمحافظة تعز أن تتولى التحقيق الجاد والمسؤول في هذه الجريمة، وأن تكشف للرأي العام كل من تورط في التخطيط أو التنفيذ أو التستر، وألا تسمح لأي طرف بالتأثير على مسار العدالة أو التلاعب بالأدلة التي وثقتها الشهيدة بدمها ووعيها. إن إحقاق الحق في قضية افتهان هو اختبار حقيقي لضمير القضاء والسلطات المحلية، وفرصة لإعادة الثقة المفقودة بين المواطن ومؤسسات العدالة.
رحم الله الشهيدة افتهان المشهري، وأسكنها فسيح جناته، وجعل من دمها الطاهر شعلةً تضيء درب العدالة في تعز، حتى لا تبقى مدينتها رهينة الفوضى والفساد والإفلات من العقاب.